أنواع الاختلاف في التفسير
(نماذج ـ وأسباب).
قال
ابن تيمية في كتاب ألفه في هذا البنوع : يجب أن يعلم أن النبي صلي الله
عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن ، كما بين لهم ألفاظه ، فقوله تعالي : (
لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ، يتناول هذا وهذا ، وقد قال
أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان
وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلي الله
عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل
قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة
وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا ، رواه أحمد في مسنده
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين ، أخرجه في الموطأ ، وذلك
أن الله قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ ص 29 ] ، وقال :
( أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء 82 ] ، وتدبر الكلام بدون فيهم معانيه
لا يمكن
وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من
العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم ، وبه
نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ! ولهذا كان النزاع بين الصحابة في
تفسير القرآن قليل جدا ، وهو وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة ؛
فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم
ومن التابعين من تلقي جميع
التفسير عن الصحابة ، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال
والخلاف بين السلف في التفسير قليل (6) ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع
إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ؛ وذلك صنفان ،
أحدهما : أن
يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى في
المسمي غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمي ، كتفسيرهم " الصراط المستقيم"
بعض بالقرآن ، أى اتباعه وبعض بالإسلام ، فالقولان متفقان ، لأن دين
الإسلام هو اتباع القرآن ؛ ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ،
وكذلك قول من قال : هو السنة والجماعة ، وقول من قال : هو طريق
العبودية ، وقول من قال : هو طاعة الله ورسوله ، وأمثال ذلك ؛ فهؤلاء كلهم
أشاروا إلى ذات واحدة ، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها
الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل
وتنبيه المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه
وخصوصه ؛ مثاله ما نقل في قوله تعالي : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا )
[ فاطر : 32 ] ، الآية ، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات
والمنتهك للحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ،
والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات ؛ فالمقتصدون أصحاب
اليمين ؛ والسابقون السابقون أولئك المقربون
ثم إن كلا منهم
يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل : السابق الذي يصلي أول
الوقت ، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه ، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى
الاصفرار أو يقول : السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والمقتصد الذي يؤدي
الزكاة المفروضة فقط ، والظالم مانع الزكاة
قال : وهذان
الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير ؛ تارة لتنوع الأسماء والصفات ،
وتارة لذكر بعض أنواع المسمي ، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه
مختلف
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا
لأمرين ؛ إما لكونه مشتركا في اللغة ، كلفظ " قسورة" الذي يراد به الرامي ،
ويراد به الأسد ، ولفظ " عسعس" الذي يراد به إقبال الليل وإدباره ؛ وإما
لكونه متواطئا في الأصل ؛ لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشخصين ،
كالضمائر في قوله : ( ثم دنا فتدلي ) [ النجم : 8 ] الآية ، وكلفظ الفجر
والشفع والوتر وليال عشر ، وأشباه ذلك ، فمثل هذا قد يجوز أن يراد كل
المعاني التي قالها السلف ، وقد لا يجوز ذلك
فالأول إما
لكون الآية نزلت مرتين ، فأريد بها هذا تارة ، وهذا تارة ، وإما لكون اللفظ
المشترك يجوز أن يراد به معنياه ، وإما لكون اللفظ متواطئا ، فيكون عاما
إذا لم يكن لمحصصه موجب؛ فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف
الثاني
ومن الأقوال الموجودة عنهم ، ويجعلها بعض الناس
اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة ، كما إذا فسر بعضهم " تبسل "
بـ " تحبس " ، وبعضهم بـ " ترتهن " ؛ لأن كلا منهما قريب من الآخر
ثم قال : فصل : والاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده
النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك ، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ،
ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ، ومنه ما لا يمكن ذلك ؛ وهذا القسم
الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا
إلى معرفته ؛ وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفي البعض
الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفي قدر سفينة نوح وخشبها ، وفي اسم الغلام
الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك ؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ؛ فما كان
منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلي الله عليه وسلم قبل ، ومالا بأن نقل
عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه ، لقوله صلي الله عليه وسلم
: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم"
وكذا
ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف
التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلا
صحيحا ، فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ؛ لأن احتمال أن يكون سمعه
من النبي صلي الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوي ؛ ولأن نقل
الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين
ومع جزم الصحابي
بما يقوله ، كيف يقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم !
وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه ؛ فهذا موجود كثيرا ولله الحمد ؛
وإن قال الإمام أحمد : " ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي"
وذلك لأن الغالب عليها المراسيل
وأما ما يعلم بالاستدلال لا
بالنقل ؛ فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثنا بعد تفسير الصحابة
والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا
لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين ؛ مثل تفسير عبد الرازق والفريابي ،
ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم ؛ أحدهما قوم اعتقدوا معاني ، ثم أرادوا حمل
ألفاظ القرآن عليها والثاني قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من
كان من الناطقين بلغة العرب ، من غير نظر إلى التكلم بالقرآن والمنزل عله
والمخاطب به ؛ فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه
ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان ، والآخرون راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز
أن يزيد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام ثم هؤلاء
كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة ، كما يغلط في ذلك
الذين قبلهم ، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به
القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون ؛ وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ،
ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق والأولون صنفان : تارة يسلبون لفظ القرآن ما
دل عليه وأريد به ، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ، ولم يرد به ، وفي
كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا ، فيكون
خطرهم في الدليل والمدلول ، وقد يكون حقا ؛ فيكون خطرهم في الدليل لا في
المدلول ؛ فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة
، وعمدلوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة
والتابعين ؛ لا في رأيهم ولا في تفسيرهم ؛ وقد صنفوا تفاسير على أصول
مذهبهم ، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبائي وعبد الجبار
والرماني والزمخشري وأمثالهم
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة
، يدس البدع في كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه ؛ حتى
إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة وتفسير ابن
عطية وأمثاله أتبع للسنة ، وأسلم من البدعة ، ولو ذكر كلام السلف المأثور
عنهم على وجهه لكان أحسن ، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبري ؛
وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما ينقله عن السلف، ويذكر
ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين
قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم ، وإن كانوا أقرب إلى
السنة من المعتزلة ؛ لكن ينبغي أن يعطي كل ذ حق حقه ، فإن الصحابة
والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول
آخر لأجل مذهب اعتقدوه : وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ،
صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا وفي الجملة من عدل عن
مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك ، بل
مبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث
الله به رسوله وأما الذين أخطئوا في الدليل لا المدلول فمثل كثير من
الصوفية والوعاظ والفقهاء ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها ، لكن
القرآن لا يدل عليها ؛ مثل كثير مما ذكره السلمي في الحقائق؛ فإن كان فيما
ذكروه معان باطلة دخل في القسم الأول انتهي كلام ابن تيمية ملخصا ، وهو
نفيس جدا
(نماذج ـ وأسباب).
قال
ابن تيمية في كتاب ألفه في هذا البنوع : يجب أن يعلم أن النبي صلي الله
عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن ، كما بين لهم ألفاظه ، فقوله تعالي : (
لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ، يتناول هذا وهذا ، وقد قال
أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان
وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلي الله
عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل
قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة
وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا ، رواه أحمد في مسنده
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين ، أخرجه في الموطأ ، وذلك
أن الله قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ ص 29 ] ، وقال :
( أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء 82 ] ، وتدبر الكلام بدون فيهم معانيه
لا يمكن
وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من
العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم ، وبه
نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ! ولهذا كان النزاع بين الصحابة في
تفسير القرآن قليل جدا ، وهو وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة ؛
فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم
ومن التابعين من تلقي جميع
التفسير عن الصحابة ، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال
والخلاف بين السلف في التفسير قليل (6) ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع
إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ؛ وذلك صنفان ،
أحدهما : أن
يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى في
المسمي غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمي ، كتفسيرهم " الصراط المستقيم"
بعض بالقرآن ، أى اتباعه وبعض بالإسلام ، فالقولان متفقان ، لأن دين
الإسلام هو اتباع القرآن ؛ ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ،
وكذلك قول من قال : هو السنة والجماعة ، وقول من قال : هو طريق
العبودية ، وقول من قال : هو طاعة الله ورسوله ، وأمثال ذلك ؛ فهؤلاء كلهم
أشاروا إلى ذات واحدة ، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها
الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل
وتنبيه المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه
وخصوصه ؛ مثاله ما نقل في قوله تعالي : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا )
[ فاطر : 32 ] ، الآية ، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات
والمنتهك للحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ،
والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات ؛ فالمقتصدون أصحاب
اليمين ؛ والسابقون السابقون أولئك المقربون
ثم إن كلا منهم
يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل : السابق الذي يصلي أول
الوقت ، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه ، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى
الاصفرار أو يقول : السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والمقتصد الذي يؤدي
الزكاة المفروضة فقط ، والظالم مانع الزكاة
قال : وهذان
الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير ؛ تارة لتنوع الأسماء والصفات ،
وتارة لذكر بعض أنواع المسمي ، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه
مختلف
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا
لأمرين ؛ إما لكونه مشتركا في اللغة ، كلفظ " قسورة" الذي يراد به الرامي ،
ويراد به الأسد ، ولفظ " عسعس" الذي يراد به إقبال الليل وإدباره ؛ وإما
لكونه متواطئا في الأصل ؛ لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشخصين ،
كالضمائر في قوله : ( ثم دنا فتدلي ) [ النجم : 8 ] الآية ، وكلفظ الفجر
والشفع والوتر وليال عشر ، وأشباه ذلك ، فمثل هذا قد يجوز أن يراد كل
المعاني التي قالها السلف ، وقد لا يجوز ذلك
فالأول إما
لكون الآية نزلت مرتين ، فأريد بها هذا تارة ، وهذا تارة ، وإما لكون اللفظ
المشترك يجوز أن يراد به معنياه ، وإما لكون اللفظ متواطئا ، فيكون عاما
إذا لم يكن لمحصصه موجب؛ فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف
الثاني
ومن الأقوال الموجودة عنهم ، ويجعلها بعض الناس
اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة ، كما إذا فسر بعضهم " تبسل "
بـ " تحبس " ، وبعضهم بـ " ترتهن " ؛ لأن كلا منهما قريب من الآخر
ثم قال : فصل : والاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده
النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك ، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ،
ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ، ومنه ما لا يمكن ذلك ؛ وهذا القسم
الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا
إلى معرفته ؛ وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفي البعض
الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفي قدر سفينة نوح وخشبها ، وفي اسم الغلام
الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك ؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ؛ فما كان
منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلي الله عليه وسلم قبل ، ومالا بأن نقل
عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه ، لقوله صلي الله عليه وسلم
: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم"
وكذا
ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف
التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلا
صحيحا ، فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ؛ لأن احتمال أن يكون سمعه
من النبي صلي الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوي ؛ ولأن نقل
الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين
ومع جزم الصحابي
بما يقوله ، كيف يقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم !
وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه ؛ فهذا موجود كثيرا ولله الحمد ؛
وإن قال الإمام أحمد : " ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي"
وذلك لأن الغالب عليها المراسيل
وأما ما يعلم بالاستدلال لا
بالنقل ؛ فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثنا بعد تفسير الصحابة
والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا
لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين ؛ مثل تفسير عبد الرازق والفريابي ،
ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم ؛ أحدهما قوم اعتقدوا معاني ، ثم أرادوا حمل
ألفاظ القرآن عليها والثاني قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من
كان من الناطقين بلغة العرب ، من غير نظر إلى التكلم بالقرآن والمنزل عله
والمخاطب به ؛ فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه
ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان ، والآخرون راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز
أن يزيد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام ثم هؤلاء
كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة ، كما يغلط في ذلك
الذين قبلهم ، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به
القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون ؛ وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ،
ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق والأولون صنفان : تارة يسلبون لفظ القرآن ما
دل عليه وأريد به ، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ، ولم يرد به ، وفي
كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا ، فيكون
خطرهم في الدليل والمدلول ، وقد يكون حقا ؛ فيكون خطرهم في الدليل لا في
المدلول ؛ فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة
، وعمدلوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة
والتابعين ؛ لا في رأيهم ولا في تفسيرهم ؛ وقد صنفوا تفاسير على أصول
مذهبهم ، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبائي وعبد الجبار
والرماني والزمخشري وأمثالهم
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة
، يدس البدع في كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه ؛ حتى
إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة وتفسير ابن
عطية وأمثاله أتبع للسنة ، وأسلم من البدعة ، ولو ذكر كلام السلف المأثور
عنهم على وجهه لكان أحسن ، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبري ؛
وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما ينقله عن السلف، ويذكر
ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين
قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم ، وإن كانوا أقرب إلى
السنة من المعتزلة ؛ لكن ينبغي أن يعطي كل ذ حق حقه ، فإن الصحابة
والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول
آخر لأجل مذهب اعتقدوه : وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ،
صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا وفي الجملة من عدل عن
مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك ، بل
مبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث
الله به رسوله وأما الذين أخطئوا في الدليل لا المدلول فمثل كثير من
الصوفية والوعاظ والفقهاء ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها ، لكن
القرآن لا يدل عليها ؛ مثل كثير مما ذكره السلمي في الحقائق؛ فإن كان فيما
ذكروه معان باطلة دخل في القسم الأول انتهي كلام ابن تيمية ملخصا ، وهو
نفيس جدا